أكثر من عشرين عامًا مرت على إعادة مؤسستنا للوحات التشكيل العراقي الرائدة، تتجدد في ذاكرتنا قصة تزدحم بالكثير من التحديات، الأمل، والإصرار. إنها قصة لوحات متحف الرواد، اللوحات التي كانت شاهدة على أبرز مراحل الحركة التشكيلية العراقية والعربية، والتي تعرضت لعملية سرقة مروعة في يوم سقوط النظام الدكتاتوري في 9 نيسان 2003.
عن تلك الأيام، التي شهدت انهيار النظام وترك الأجهزة الأمنية أماكنها، وحيث كانت بغداد تغرق في فوضى غير مسبوقة. والسلب والنهب كانا عناوين رئيسية في شوارع المدينة. كانت هناك محاولات سرقة لعديد من الأماكن الهامة، بما في ذلك المكتبات والمخطوطات النادرة في جامعات بغداد والمستنصرية. وفي وسط هذه الفوضى، اختفت اللوحات التشكيلية الشهيرة لمتحف الرواد، وهي التي كان يعدها الكثيرون من أهم الأعمال في تاريخ الفن العراقي والعربي. كانت تلك اللحظة بداية حكاية يرويها الشاعر الدكتور علي الشلاه مدير مهرجان بابل للثقافات والفنون العالمية ، وهي حكاية محفوفة بالمخاطر والتحديات.

التحدي الاكبر
في تلك الأيام، كنت قد افتتحت فرعًا لمؤسستنا السابقة في سويسرا، المركز الثقافي العربي السويسري، في قلب بغداد. بدأنا تنظيم فعاليات ثقافية وفكرية وفنية أسبوعية، وهو مشروع أملنا أن يعيد الروح للمكتبات والفنون في المدينة. كجزء من هذه الجهود، بدأتُ في شراء آلاف الكتب والمطبوعات من داخل العراق وخارجه لدعم مكتبتنا وإعادة الحياة إليها بعد الدمار الذي أصابها.
ثم جاء التحدي الأكبر: عرض بعض الباعة على زملائنا لوحات قالوا إنها مسروقة من متحف الرواد. وقد زعموا أن هذه اللوحات قد تم بيعها لهم من قبل بعض الشباب. اللوحات كانت تحمل توقيعات لعمالقة الفن التشكيلي مثل فائق حسن وجواد سليم. وعلى الرغم من أن الباعة طالبوا بمبالغ طائلة، وصلت إلى 120 ألف دولار لواحدة من لوحات فائق حسن، كان لدي يقين بأن هذه اللوحات لا تقدر بثمن ولا يجوز السماح بتهريبها من العراق.
اتخذنا قرارًا حاسمًا: لن نسمح بتهريب هذه الأعمال الفنية. تواصلت مع زملائي عبر الهاتف الثريا المنتشر في ذلك الوقت، وأمرت بتفاوض جاد مع هؤلاء الباعة. تم التفاوض عبر أسلوب مدروس، بين الترغيب والترهيب، حتى تم الوصول إلى سعر معقول استطعت دفعه بالكامل. لم يكن الأمر مجرد شراء لوحات؛ بل كان عملًا يحمل رسالة إنقاذ للتراث الثقافي العراقي.
يوم تأريخي
ثم جاء اليوم التاريخي الذي سلمنا فيه اللوحات إلى وزارة الثقافة، بحضور الوزير والسفير السويسري، السيد “إشبيخر”، في لحظة توثيق تلفزيوني. كان هذا التوثيق شهادة على حجم الإنجاز وأثره في إعادة جزء من تاريخنا الفني الذي كان مهددًا بالضياع.
لقد سألني أحد الصحفيين: “ما هو أفضل عمل تفتخر به في حياتك؟” ولم أتردد لحظة في الإجابة: “إعادة لوحات متحف الرواد.” لأنني أدرك جيدًا أن هذه اللحظة كانت تمثل أكثر من مجرد استعادة لوحات فنية؛ كانت إعادة لماضٍ عريق وحفاظًا على هوية ثقافية وحضارية عظيمة.
اليوم، ونحن نحتفل بمرور عشرين عامًا على تلك اللحظة، لا أستطيع إلا أن أشعر بالفخر والاعتزاز بما أنجزناه. تلك اللوحات التي كانت قد سرقت في أوج فوضى السقوط، عادت لتحتفظ بمكانتها التاريخية في متحف الرواد، شاهدة على إرادة الشعب العراقي في الحفاظ على تراثه الثقافي، مهما كانت التحديات.