لا يساور أي مراقب الشك بأن الجولاني، الإرهابي الذي كانت الولايات المتحدة الأمريكية تطارده وتعرض عشرة ملايين دولار مكافأة مقابل أي معلومة تقود للقبض عليه او قتله، قد نجح بفضل دعم قطر وتركيا في إقناع المخابرات الأمريكية بوجود فرصة للتعاون معه.
تزايدت هذه القناعة لدى الجولاني بعد صفقة تمت بواسطة قطرية وقادت في النهاية الى انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان، تمثل استراتيجية امريكية جديدة للتعامل مع الجماعات المسلحة عن طريق ترويضها وإشراكها في العملية السياسية كأسلوب أكثر فعالية من محاربتها عسكريًا، والاتجاه نحو “تقييدها” بشروط العمل ضمن إطار سلطوي وهو الخيار الأقل ضررًا، حيث يُفترض أنها ستضطر إلى القبول بمعايير حقوق الإنسان، حتى لو كانت هذه الالتزامات في حدها الأدنى.
في النهاية، فأن الأولوية بالنسبة للولايات المتحدة هي ضمان أمنها وحماية مصالح حلفائها في إسرائيل وأوروبا، وليس نشر الديمقراطية التي فرضت تكلفة باهظة في العراق دون تحقيق نتائج ملموسة.
ومن خلال التعاون مع تركيا وقطر والمخابرات الأمريكية، تمكن الجولاني من إعادة تشكيل أهداف الجماعات المسلحة التي تقاتل في سوريا، وتحويل تركيزها من “الجهاد العالمي” الذي كان يسعى إلى إقامة دولة إسلامية على غرار تنظيم “داعش” بقيادة البغدادي، أو تنظيم القاعدة بزعامة أسامة بن لادن، أو حتى الزرقاوي، إلى “جهاد محلي” يهدف إلى إسقاط الأنظمة في دولها الخاصة.
ورغم أن المقاتلين الذين انضموا إلى صفوف الجولاني لم يؤمنوا بفكرة الجهاد المحلي، خصوصًا وأنهم جاءوا من دول بعيدة وكانوا يحملون أملًا في تحقيق حلم الدولة الإسلامية، فإن الجولاني استطاع أن يظهر كقائد براغماتي يمكنه اقناع رفاقه بفكرة الولايات المتحدة وتركيا. وبفضل تلك الجهود، تمكّن من تقديم معلومات مهمة أسهمت في تصفية العديد من قادة تنظيم “داعش”، بما في ذلك عملية اغتيال زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي.
والحق ان الجولاني لم ينشأ في عائلة متشددة أو منغلقة فكريًا، بل كان والده شخصًا علمانيًا سعى جاهدًا لتعليم أولاده. ربما كان أحمد، الشرع، هو الابن الوحيد الذي فشل دراسيًا، وهو ما قد يكون دفعه للابتعاد عن أسرته المتفوقة دراسيًا والتوجه إلى المساجد، ثم السفر إلى العراق للقتال ضد الأمريكيين والشيعة الذين أسقطوا النظام السني العربي.
انضباط وتكتيك
في صفوف الجماعات الإرهابية، أثبت الجولاني نفسه بسرعة وحقق تقاربًا مع قادة هذه التنظيمات، خاصة مع البغدادي الذي كان معجبًا بانضباطه وذكائه. دعم البغدادي فكرة الجولاني في تشكيل فرع خاص بالقتال ضد النظام السوري، وهو ما مهد له الطريق لتأسيس “جبهة النصرة” بعد انشقاقه عن داعش.
والجولاني هو شخصية براغماتية تتحلى بالقدرة على التحول والتكيف وفقًا للظروف. كان يدرك تمامًا أن بقائه مطلوبًا من قبل الولايات المتحدة، سيكون مصيره، مثل مصير القادة الأقوى منه، سيكون نهايته في حال لم يغير استراتيجيته. لذلك، أرسل رسالة للغرب مفادها أنه مجاهد ضد نظام الأسد، وليس ضد الولايات المتحدة أو الغرب بشكل عام. خلال فترة قصيرة، تحول خطاب الجولاني من معاداة أمريكا إلى معاداة النظام السوري، وأقنع المقربين منه بأن بإمكانهم إقامة دولة إسلامية في سوريا، فغيروا استراتيجيتهم لتتناسب مع الظروف الجديدة.
الجهاد المحلي
لقد حاول الجولاني أن يظهر نفسه على أنه الزعيم المناهض للنظام السوري، بما يتماشى مع رغبة الولايات المتحدة في إنهاء نفوذ الأسد وتعزيز الأجندة الغربية. وبفضل هذا التحول، تمكن من إقامة “إمارة إسلامية” في إدلب، حظيت في الواقع بحماية غير معلنة وحذرة من الولايات المتحدة الامريكية بهدف منع قوات الأسد من الاقتراب منها حتى الانتهاء من تقرير مصير سوريا.
أمريكا، من خلال وساطاتها مع دول الخليج، حاولت التوصل إلى اتفاق مع بشار الأسد، لكن هذا الأخير استمر في المماطلة. حتى جاءت الحرب بين إسرائيل وغزة، التي شكلت نقطة تحول كبيرة في المنطقة وأدت إلى تغيير في سياسة الولايات المتحدة تجاه سوريا. في النهاية، كان الحل الأمريكي يكمن في دعم الجولاني كبديل للأسد، مع تأكيد وصاية تركية على سوريا.
الغرب الآن يعمل بكل جهد لدعم الجولاني، الذي أعلن عن نفسه رئيسًا لسوريا، بهدف تأهيله ليكون قائدًا “معتدلًا” قادرًا على تقديم نموذج جديد لا يتضمن خطرًا على الأمن الغربي. في هذا السياق، يبدو أن الجولاني أصبح يُعتبر الشخص القادر على بناء سوريا جديدة تلتزم بالمعايير الغربية، وتعمل على تصفية خطر الجماعات الإرهابية العابرة للحدود، وهو نموذج يعتقد الغرب أنه يمكن أن يكون أكثر نجاحًا من النموذج الأفغاني.
في الواقع لم تكن جميع دول المنطقة مستعدة لتقبل هذا التحول بسهولة. الدول المجاورة، مثل الأردن ومصر والعراق وجدت نفسها في مواجهة واقع معقد وغير محسوب، وبقدر ما تماهت دول الخليج بحذر شديد مع هذا الواقع الذي لن يكون بالضرورة مفيدا لدول المنطقة حيث يظل خطر الجماعات الإرهابية قائمًا.
الجانب الخطير
الجانب السيء للاستراتيجية الاحتواء الامريكية والتي لم تنال الكثير من الدراسة والتقييم والتي بدأت بوادرها تتشكل هي أن العنف والجهاد المحلي سيكونان الوسيلة لتحقيق السلطة، مع قبول المجتمع الدولي لهذا التحول طالما أن ذلك لا يمس أمن الغرب ومصالحه، وهو امر خطير يزعزع الامن في العديد من دول المنطقة. لكن في نهاية المطاف، قد يضطر الغرب إلى مواجهة تحديات جديدة مع تزايد عناصر الجهاد المحلي. الذي قد يؤدي إلى حالة مشابهة لتجربة الجولاني في سوريا، ولكن هذه المرة ربما في مصر أو دول أخرى في المنطقة، مما يهدد أمن ويضرب المكاسب الكبيرة التي انتجت مجتمعا مدنيا لا يهادن التطرف ويعقد معه الصفقات كما فعلت امريكا، وهو ما يقود الى ضياع جهود كبيرة تشكلت على اساس ان المتطرفين اعداء لا مستقبل لهم، وان ثمن العنف حساب يطال قادته وهم هاربون منعزلون وليس منحهم الدول جوائز لمهادنتهم